الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر من طريق عطاء الخراساني عن ابن عباس في المجادلة {إذا ناجيتم الرسول فقدوا بين يدي نجواكم صدقة} قال: نسختها الآية التي بعدها {أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات}.وأخرج عبد بن حميد عن سلمة بن كهيل {يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول} الآية قال: أول من عمل بها عليّ رضي الله عنه ثم نسخت، والله أعلم. اهـ.
.تفسير الآيات (14- 16): قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16)}.مناسبة الآية لما قبلها: قال البقاعي:ولما أخبر بإحاطة علمه ردعًا لمن يغتر بطول حلمه، دل على ذلك باطلاعه على نفاق المنافقين الذي هو أبطن الأشياء، فقال معجبًا مرهبًا معظمًا للمقام بتخصيص الخطاب بأعلى الخلق صلى الله عليه وسلم تنبيهًا على أنه لا يفهم ذلك حق فهمه غيره: {ألم تر} ودل على بعدهم عن الخير بحرف الغاية فقال: {إلى الذين تولوا} أي تكلفوا بغاية جهدهم أن جعلوا أولياءهم الذين ينزلون بهم أمورهم {قومًا} ابتغوا عندهم العزة اغترارًا بما يظهر لهم منهم من القوة {غضب الله} أي الملك الأعلى الذي لا ند له {عليهم} أي على المتولين والمتولَّين لأنهم قطعوا ما بينهم وبينه، والأولون هم المنافقون تولوا اليهود، وزاد في الشناعة عليهم بقوله مستأنفًا: {ما هم} أي اليهود المغضوب عليهم {منكم} أيها المؤمنون لتوالوهم خوفًا من السيف ورغبة في السلم {ولا منهم} أي المنافقين، فتكون موالاتهم لهم لمحبة سابقة وقرابة شابكة، ليكون ذلك لهم عذرًا، بل هم مذبذبون، فهم مع المؤمنين بأقوالهم، ومع الكفار بقلوبهم، فما تولوهم إلا عشقًا في النفاق لمقاربه ما بينهم فيه، أو يكون المعنى: ما المنافقون المتولون من المسلمين ولا من اليهود المتولين، وزاد في الشناعة عليهم بأقبح الأشياء الحالم على كل رذيلة، فقال ذاكرًا لحالهم في هذا الاتحاد: {ويحلفون} أي المنافقون يجددون الحلف على الاستمرار، ودل بأداة الاستعلاء على أنهم في غاية الجرأة على استمرارهم على الأيمان الكاذبة بأن التقدير: مجترئين {على الكذب} في دعوى الإسلام وغير ذلك مما يقعون فيه من عظائم الآثام، فإذا عوتبوا عليه بادروا إلى الإيمان.ولما كان الكذب قد يطلق في اللغة على ما يخالف الواقع وإن كان عن غير تعمد بأن يكون الحالف يجهل عدم مطابقته للواقع، قال نافيًا لذلك مبينًا أنهم جرؤوا على اليمين الغموس: {وهم يعلمون} أي أنهم كاذبون فهم متعمدون، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «يدخل عليكم رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان. فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق أسمر قصيرًا خفيف اللحية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلف بالله ما فعل. فقال له: فعلت. فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه، فنزلت».ولما أخبر عن حالهم، أتبعه الإخبار عن مآلهم، فقال دالًا- كما قال القشيري- على أن- من وافق مغضوبًا عليه أشرك نفسه في استحقاق غضب من هو غضبان عليه، فمن تولى مغضوبًا عليه من قبل الله استوجب غضب الله وكفى بذلك هوانًا وحزنًا وحرمانًا، معبرًا بما دل على أنه أمر قد فرغ منه: {أعد الله} أي الذي له العظمة الباهرة فلا كفوء له، وعبر بما دل على التهكم بهم فقال: {لهم عذابًا} أي أمرًا قاطعًا لكل عذوبة {شديدًا} يعلم من رآه ورآهم أن ذواتهم متداعية إليه ضعيفة عنه.ولما أخبر بعذابهم، علله بما دل على أنه واقع في أتم مواقعه فقال مؤكدًا تقبيحًا على من كان يستحسن أفعالهم: {إنهم ساء} أي بلغ الغاية مما يسوء، ودل على أن ذلك كان لهم كالجبلة بقوله: {ما كانوا يعملون} أي يجددون عمله مستمرين عليه لا ينفكون عنه من غشهم المؤمنين ونصحهم الكافرين وعيبهم للإسلام وأهله، واجترائهم على الأيمان الكاذبة، وأصروا على ذلك حتى زادهم التمرن عليه جرأة على جميع المعاصي.ولما دلت هذه الجملة على سوء أعمالهم ومداومتهم عليها، أكد ذلك بقوله: {اتخذوا} أي كلفوا فطرهم الأولى المستقيمة لما لهم من العراقة في اعوجاج الطبع والمحبة للأذى {أيمانهم} الكاذبة التي لا تهون على من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان {جنة} أي وقاية وسترة من كل ما يفضحهم من النفاق كائنًا ما كان، أو يوجب قتلهم بما يقع منهم من الكفران.ولما كان علمهم بأنه يرضى منهم بالظاهر ويصدق أيمانهم هو الذي جرأهم على العظائم، فكانوا يرغبون الناس في النفاق بعاجل الشهوات ويثبطونهم عن الدين بما فيه من عاجل الكلف وآجل الثواب، سبب عن قبول إيمانهم قوله مظهرًا بزيادة التوبيخ لهم: {فصدوا} أي كان قبول ذلك منهم وتأخير عقابهم سببًا لإيقاعهم الصد {عن سبيل الله} أي شرع الملك الأعلى الذي هو الطريق إلى رضوانه الذي هو سبب الفوز الأعظم، فإنهم كانوا يثبطون من لقوا عن الدخول في الإسلام ويوهون أمره ويحقرونه، ومن رآهم قد خلصوا من المكاره بأيمانهم الحانثة وردت عليهم الأرزاق استدراجًا وحصلت لهم الرفعة عند الناس بما يرضونهم من أقوالهم المؤكدة بالأيمان غره ذلك فاتبع سنتهم في أقوالهم وأفعالهم، ونسج على منوالهم، غرورًا بظاهر أمرهم، معرضًا عما توعدهم الله سبحانه عليه من جزاء خداعهم ومكرهم، وأجرى الأمر على أسلوب التهكم باللام التي تكون في المحبوب فقال: {فلهم} أي فتسبب عن صدهم أنهم كان لهم {عذاب مهين} جزاء بما طلبوا بذلك الصد إعزاز أنفسهم وإهانة أهل الإسلام. اهـ..من أقوال المفسرين: .قال الفخر: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}كان المنافقون يتولون اليهود وهم الذين غضب الله عليهم في قوله: {مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة: 60] وينقلون إليهم أسرار المؤمنين: {مَّا هُم مّنكُمْ} أيها المسلمون ولا من اليهود {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب} والمراد من هذا الكذب إما ادعاؤهم كونهم مسلمين، وإما أنهم كانوا يشتمون الله ورسوله ويكيدون المسلمين فإذا قيل لهم: إنكم فعلتم ذلك خافوا على أنفسهم من القتل، فيحلفون أنا ما قلنا ذلك وما فعلناه، فهذا هو الكذب الذي يحلفون عليه.واعلم أن هذه الآية تدل على فساد قول الجاحظ إن الخبر الذي يكون مخالفًا للمخبر عنه إنما يكون كذبًا لو علم المخبر كون الخبر مخالفًا للمخبر عنه، وذلك لأن لو كان الأمر على ما ذهب إليه لكان قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} تكرارًا غير مقيد، يروى أن عبد الله بن نبتل المنافق كان يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرته إذ قال: يدخل عليكم رجل ينظر بعين شيطان أو بعيني شيطان فدخل رجل عيناه زرقاوان فقال له: لم تسبني فجعل يحلف فنزل قوله: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15)}والمراد منه عند بعض المحققين عذاب القبر.{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16)} وفيه مسألتان:المسألة الأولى:قرأ الحسن: {اتخذوا أيمانهم} بكسر الهمزة، قال ابن جني: هذا على حذف المضاف، أي اتخذوا ظهار إيمانهم جنة عن ظهور نفاقهم وكيدهم للمسلمين، أو جنة عن أن يقتلهم المسلمون، فلما أمنوا من القتل اشتغلوا بصد الناس عن الدخول في الإسلام بإلقاء الشبهات في القلوب وتقبيح حال الإسلام.المسألة الثانية:قوله تعالى: {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أي عذاب الآخر، وإنما حملنا قوله: {أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} على عذاب القبر، وقوله ههنا: {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} على عذاب الآخر، لئلا يلزم التكرار، ومن الناس من قال: المراد من الكل عذاب الآخرة، وهو كقوله: {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب} [النحل: 88]. اهـ..قال القرطبي: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْمًا غَضِبَ الله عَلَيْهِم}قال قتادة: هم المنافقون توَّلُوا اليهود {مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ} يقول: ليس المنافقون من اليهود ولا من المسلمين بل هم مذبذبون بين ذلك، وكانوا يحملون أخبار المسلمين إليهم.قال السّدي ومقاتل: «نزلت في عبد الله بن أبيّ وعبد الله بن نَبْتَل المنافقَيْن؛ كان أحدهما يجالس النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينا النبيّ صلى الله عليه وسلم في حجرة من حجراته إذ قال: يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان. فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق أسمر قصيرًا خفيف اللحية فقال عليه الصلاة والسلام: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلف بالله ما فعل ذلك. فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: فعلت فآنطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه؛ فنزلت هذه الآية» وقال معناه ابن عباس.روى عِكرمة عنه؛ قال: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم جالسًا في ظل شجرة قد كاد الظل يتقلص عنه إذ قال: يجيئكم الساعة رجل أزرق ينظر إليكم نظر شيطان. فنحن على ذلك إذ أقبل رجل أزرق، فدعا به النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: علام تشتمني أنت وأصحابك. قال: دعني أجيئك بهم. فمرّ فجاء بهم فحلفوا جميعًا أنه ما كان من ذلك شيء؛ فأنزل الله عز وجل: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعًا} إلى قوله: {هُمُ الخَاسِرُونَ}».واليهود مذكورون في القرآن بـ {غَضِبَ الله عَلَيْهِم}.{أَعَدَّ الله لَهُمْ} أي لهؤلاء المنافقين {عَذَابًا شَدِيدًا} في جهنم وهو الدرك الأسفل.{إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي بئس الأعمال أعمالهم {اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} يستجِنُّون بها من القتل.وقرأ الحسن وأبو العالية «إِيمَانَهُمْ» بكسر الهمزة هنا وفي (الْمُنَافقون).أي إقرارهم اتخذوه جنة، فآمنت ألسنتهم من خوف القتل، وكفرت قلوبهم {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار.والصدّ المنع {عَن سَبِيلِ الله} أي عن الإسلام.وقيل: في قتلهم بالكفر لما أظهروه من النفاق.وقيل: أي بإلقاء الأراجيف وتثبيط المسلمين عن الجهاد وتخويفهم. اهـ..قال الألوسي: {أَلَمْ تَرَ} تعجيب من حال المنافقين الذين كانوا يتخذون اليهود أولياء ويناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين، وفيه على ما قال الخفاجي: تلوين للخطاب بصرفه عن المؤمنين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أي ألم تنظر {إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ} أي والوا {قوْمًا غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ} وهم اليهود {مَّا هُم} أي الذين تولوا {مّنكُمْ} معشر المؤمنين {وَلاَ مِنْهُمْ} أي من أولئك القوم المغضوب عليهم أعني اليهود لأنهم منافقون مذبذبون بين ذلك، وفي الحديث «مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين غنمين أي المترددة بين قطيعين لا تدري أيهما تتبع».وجوز ابن عطية أن يكون {هُمْ} للقوم، وضمير {مِنْهُمْ} للذين تولوا، ثم قال: فيكون فعل المنافقين على هذا أخس لأنهم تولوا مغضوبًا عليهم ليسوا من أنفسهم فيلزمهم ذمامهم ولا من القوم المحقين فتكون الموالاة صوابًا؛ والأول هو الظاهر والجملة عليه مستأنفة، وجوز كونها حالًا من فاعل {تَوَلَّوْاْ} ورد بعدم الواو، وأجيب بأنهم صرحوا بأن الجملة الاسمية المثبتة أو المنفية إذا وقعت حالًا تأتي بالواو فقط وبالضمير فقط وبهما معًا، وما هاهنا أتت بالضمير أعني هم، وعلى ما قال ابن عطية: في موضع الصفة لقوم.وذكر المولى سعد الله أن في {مّنكُمْ} التفاتًا، وتعقب بأنه إن غلب فيه خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم فظاهر أنه لا التفات فيه وإن لم يغلب فكذلك لا التفات فيه إذ ليس فيه مخالفة لمقتضى الظاهر لسبق خطابهم قبله، وفي جعله التفاتًا على رأي السكاكي نظر {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب} عطف على {تَوَلَّوْاْ} داخل في حيز التعجيب، وجوز عطفه على جملة {مَّا هُم مّنكُمْ} وصيغة المضارع للدلالة على تكرر الحلف، وقوله تعالى: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} حال من فاعل {يحلفون} مفيدة لكمال شناعة ما فعلوا فإن الحلف على ما يعلم أنه كذب في غاية القبح، واستدل به على أن الكذب يعم مايعلم المخبر مطابقته للواقع وما لا يعلم مطابقته له فيرد به على مذهبي النظام.
|